السبت، 27 فبراير 2016

مقاييس الأداء .. رفع الكفاءة و تكبيل الفساد



تحدثت بالأسبوع الماضي عن أهمية التفرقة بين المشكلات الناشئة عن الفساد و الأخرى الناشئة عن الكفاءة، للوصول إلى تشخيص سليم و حلول ملائمة. و كنت قد أكدت على أنه ليس كل خطأ نتيجة للفساد، و لكن هناك مشكلات إدارية عديدة منها مثلا، تدني الكفاءة (efficiency).

اليوم أود الحديث عن إحدى الحلول الإدارية الجوهرية لتحقيق الكفاءة داخل المنظمات (سواءا كانت حكومية أو خاصة)، و تتضمن أنظمة مقاييس الأداء (performance measurement systems).

تبنى مقاييس الأداء على ضوء الأهداف و النتائج التي ترغب المنظمة في تحقيقها، و تعطي الإدارة أداة هامة لمتابعة و معرفة مدى توافق العمل اليومي (أداء الموظفين) مع النتائج المخططة و الأهداف الموضوعة مسبقا. و الجدير بالذكر، أن التخطيط السليم يعد حجر أساس لأي منظمة تسعى إلى الإستمرارية، و أي تنظيم لا يسير وفقا لعمل مخطط و نتائج محددة مسبقا، قد يتحول إلى بيئة خصبة لانتشار الأخطاء و تدني الأداء و بالطبع تفشي الفساد

و بعد التخطيط الجيد و وضوح النتائج المستهدفة، يمكن أن تلعب مقاييس الأداء دورها في جمع المعلومات (الرقمية و غير الرقمية) التي تستخدم لقياس مدى تقدم العمل اليومي مقارنة بالنتائج المستهدفة.

و لتصور طريقة عمل مقاييس الأداء، يمكن النظر إلى استراتيجية تطويرالتي اعتمدتها وزارة التعليم لإصلاح التعليم العام. فقد حددت الاستراتيجية بوضوح الأهداف و النتائج التي تريد أن تصل إليها بشأن تطوير المدارس في خلال عدد من السنوات (٢٠١٢-٢٠١٩)، و ذلك بعد دراسة مستفيضة غطت مشكلات المرحلة الحالية و تحديات المرحلة المقبلة.

و لم تغفل الاستراتيجية عن إدراج عدد من مقاييس الأداء التي تمكن المسؤولين من متابعة و قياس مستوى الانجاز (النتائج الفعلية) مقارنة بما هو مخطط ضمن الاستراتيجية. على سبيل المثال، أحد أهداف الخطة هو تحسين أداء الطلاب في اللغة العربية و توظيفها، و المقاييس التي أدرجتها للتأكد من تحقق ذلك الهدف تشمل: مستوى التحصيل الدراسي، معدل القراءة الحرة و القراءة للمتعة، اختبار القدرات في اللغة العربية، معدل الكتابة الإبداعية و التدوين، و ترتيب المملكة في اختبارات بيرلز (PERILS).

و ليس الهدف من تلك المقاييس هو دعم المسؤولين بالمعلومات حول مدى نجاح تطبيق الخطط فحسب، و إنما أيضا مساعدة الموظفين (إداريي المناطق و المعلمين) للتعرف على الأداء المتوقع منهم وفقا للاستراتيجية. بمعنى آخر، توفر تلك المقاييس قناة يدرك من خلالها المعلمين مهامهم، مسؤولياتهم، و مدى تقدم إنجازهم مقارنة مع ما هو متوقع منهم وفقا ل تطويرو ذلك عبر تقييمات و تقارير الأداء التي يستلمونها دوريا. فمستوى تحصيل الطلاب الدراسي و نتائجهم في اختبارات القدرات يوفران للمعلمين بعض الأدوات التي تمكنهم من معرفة جوانب القصور في الأداء كي يعملوا على تحسينها مستقبلا.

إن تحقق التكامل بين الخطط و بين الإنجاز الفعلي (اليومي) هو أحد أهم الوسائل التي يتم من خلالها تحسين الأداء و رفع الكفاءة.  

و حينما تضيق الدائرة الحكومية السبل أمام الانحرافات في الأداء و تصحح الأخطاء فور حدوثها، فذلك سيجلب تكبيلا أثقل للأيدي المفسدة و يكشف المقصرين و يمكن من محاسبتهم.





السبت، 20 فبراير 2016

فساد أم كفاءة!



يخلط الكثيرون في تشخيص الأخطاء التي ينتج عنها هدر في الموارد أو ضعف في الإنتاجية أو الجودة. و حينما نسمع بخبر وجود أخطاء بإحدى الوزارات، أو المؤسسات أو الشركات، فإن أول ما يطرأ على البال أنها ناتجة عن الفساد (أي استغلال الموظف للوظيفة لتحقيق مكاسب شخصية).

و كما نعلم جميعا، يقودنا التشخيص الخاطئ إلى صياغة حلول خاطئة، قد ينتج عنها المزيد من الهدر للموارد.

و في الواقع، ليس كل خطأ هو نتيجة لوجود فساد. هناك مشكلات إدارية عديدة، تقليدية و حديثة، تقود إلى ضعف الأداء و تراجع الإنتاجية و إهدار الموارد.

كل منشأة أو شركة وجدت من أجل تحقيق مجموعة من الأهداف. على سبيل المثال، الجامعة تعمل من أجل تزويد المجتمع بالدراسات و الأبحاث التي تعالج أبرز قضاياه و من أجل دعم سوق العمل بالكوادر البشرية عالية التأهيل، و المستشفيات وجدت من أجل القضاء على الأمراض الوبائية، استقبال الحالات الطارئة، و معالجة المرضى.

 و لكي تتمكن الجامعة، مثلا، من تحقيق أهدافها تلك، يتطلبها ذلك أن تملك مجموعة من الموارد البشرية و التقنية و أن تحسن إدارتها (و قد يتطلب ذلك الإنفاق عليها لاستقطابها (نفقات تعيين، تكوين، أو تأسيس)، الإنفاق من أجل صيانتها أو منع تسربها، ثم أيضا تنفق من أجل تجديدها أو تطويرها لتواكب التغيرات الطارئة (نفقات في صورة برامج تدريبية أو تحديث للتطبيقات و الأنظمة)). و بإدارة هذه الموارد و اتخاذ العديد من القرارات الإدارية و المالية بشأنها يمكن للمنشأة البقاء و الإستمرار للوصول إلى النتائج التي ترغب في تحقيقها (الأهداف).

و لكن، تقف الكثير من التحديات و المعوقات أمام الوصول إلى الإدارة المثلى (الكفاءة - efficiency) لتلك الموارد، و هي تحديات تختلف عن مشكلة الفساد. فماهي مشكلة الكفاءة و ما تأثير غيابها؟

الكفاءة بمنظور عام تعني تحقيق أقصى كمية، أو ربح، أو إنتاجية ممكنة من الموارد المتوفرة. و بطريقة أخرى تعني تقليص هدر الموارد باستغلالها الاستغلال الأمثل. و ذلك يتطلب معرفة واسعة بالأساليب الإدارية و الأدوات الحديثة و التحديات المعاصرة لوضع الخطط و السياسات و ترشيد القرارات على ضوء نتائج دراسات و مسوح و رؤى واضحة.

و الكفاءة ليست هدف ثابت، و لكنه في حالة شد و جذب مستمر، هدف يتطلب إدارة متوازنة للموارد بين الربحية و المسؤولية الاجتماعية، بين الحاجة للاستقرار و الحاجة للتطوير، بين الإنفاق للتنويع و بين الإنفاق للتوسع، بين التعاون و بين المنافسة، بين التكلفة و بين التميز، بين الإستجابة للبيئة و بين المعيارية، و قد تطول الثنائيات المتناقضة.

مما سبق قد يمكن للبعض تصور الفرق بين المشكلات التي تتبع غياب الكفاءة في إدارة الموارد و بين المشكلات التي تتعلق بنزاهة الموظفين (الفساد).

و مشكلات الكفاءة لا تعالج بفصل أو محاسبة من أرتكب الخطأ و لا بإحكام الرقابة، بل تتطلب معالجة مختلفة. فمثلا، قد تأخذ المعالجة مسارات هيكلية أشمل (أي قد تبدأ من الخطط و السياسات و الإستراتيجيات، ثم تصل إلى تقليص أو دمج إجراءات العمل اليومي و رفع أداء الموظف).


السبت، 30 يناير 2016

تطوير الجامعات .. كيف تنظر له أعين الطلاب؟



مع ارتفاع التوقعات حول الأدوار التي تلعبها الجامعات لمقابلة مطالب المجتمع لتخريج مواطنين متقدمي المعرفة و المهارة، أصبحت الحاجة ملحة ليكون هناك تحديث و تطوير للبرامج و المواد بشكل غير متوقف، و ذلك نابع من الحاجة لأن يتم إدارة التطوير بالأخذ في الإعتبار  التحديات المتجددة التي تجلبها العولمة (globalization) باستمرار، و متطلبات الاقتصاد المعرفي لبناء اقتصاد سعودي منافس على صعيد الأسواق العالمية.

إلى جانب تلك المسؤوليات، تريد الحكومة من الجامعات كفاءة في استخدام الموارد عند تشغيل البرامج الدراسية، و تريد جودة في المخرجات (معرفة و مهارة تسد احتياجات سوق العمل). و المجتمع يريد زيادة في المقاعد الجامعية، و رفع جودة التعليم، و جعل التكاليف الدراسية ميسرة.

ما بين ذاك المد و ذاك الجزر، يوجد العنصر، ربما الأكثر تأثرا، و مع ذلك، الأخفت صوتا: الطالب/الطالبة و ما يتطلع له.

و يأتي السؤال الأهم، كيف يعيش الطالب التجربة؟ بعبارة أخرى، إلى أي درجة يشعر الطالب بأنه منسجم مع الروتين و متطلبات التغيير و التحديات التي تخوضها الأقسام لمقابلة مطالب الحكومة و المجتمع، و كيف يرى تطور أهدافه التعليمية (التي من أجلها خصص جزءا من سنوات عمره الثمينة ليقضيها في التعليم الجامعي) في ظل تلك الظروف غير المستقرة داخل قسمه؟

ينبغي أن لا ننسى، أن الطالب هو العنصر الأكثر حرجا من ذلك كله، و المحدد الرئيس لمعرفة ما إذا كنا نسير بالجهود التطويرية على المسار الصحيح.

التعليم الجامعي تحول كبير في حياة الطالب (تجربة تعلم مختلفة)، فطالب الجامعة يُعامل كراشد، يُتوقع منه قدرا مضاعفا من الجهد و المسؤولية و الاستقلالية في التعلم المستمر و الذاتي، يُنظر له كعامل للمعرفة (ناقد، محلل، منتج)، و ذلك على خلاف التعليم المدرسي (التلقين).

و تجربة السنة الجامعية الأولى هي الأكثر تحديا في مسيرته، عندها يحدد تطلعاته و يدرك مسؤولياته و أدواره التي من خلالها سيحقق أحلامه، فهل تأخذ الأقسام بعين الإعتبار ما قد يتطلع له الطالب حينما تضع استراتيجيات المرحلة القادمة من التغيير، و ذلك كي تعينه ليرى الصلة فيما بين ما يريده هو و بين ما يتوقع القسم منه كطالب منتظم؟

فحينما يواجه المحاضر تكرار في الغياب، أو انخفاض كبير في الأداء لدى الطلاب، قد يتبادر في الذهن أن الطلاب غير مبالين أو لا يريدون أن يتعلموا شيئا، في حين أن السبب الحقيقي قد يعود إلى فشل البرنامج في جعل الطالب يرى العلاقة بين ما هو مطلوب منه (من حضور و جهد و تعلم ذاتي و مستمر) و بين مستقبله و أحلامه.

إن عدم ادراك الطالب لتلك العلاقة، أو إحساسه بفقدان الهوية الشخصية و هيمنة الهوية الجامعية عليها ليكون الأداة التي ترتقي بها في التصنيفات العالمية و تقابل بها شروط الإعتمادات الأكاديمية، فذلك سيعيق أمرين جوهريين: الأول جعل الطالب يؤمن في قيمة التعلم فيشعر بالمسؤولية و يبذل الجهد ليحقق المتوقع منه كطالب منتظم، و الثاني، سيصعب على الجامعة مقابلة مطالب المجتمع في رفع جودة مخرجات التعليم، لأن العنصر الأكثر حرجا، و الذي تحركت الجهود لأجله، غير مستجيب، كونه مغيب (لا يدرك موقعه من تلك العواصف (عواصف التطوير) و لا يرى صلتها بتطلعاته).



  

السبت، 23 يناير 2016

تعليم قابل للتكيف



تحدثت في المقالين الماضيين عن جوانب مهمة تتعلق بمهارات القرن الحادي و العشرين. اليوم أختم السلسلة بفقرتين جوهريتين: الأولى تناقش الطريقة التي ينبغي أن تتبع في تحديد تلك المهارات و المعارف في ظل ندرة الأبحاث بالخصوص، و الثانية تعطي نماذج لبعض المهارات المستجدة و أثرها على مستقبل الخريج المهني، كي تتضح الصورة بشكل أقرب.

هناك ضرورة لأن يدرك الوعي الوطني بأن مهمة تحديد المعارف و المهارات التي يحتاج إليها الطلاب يجب أن تلائم مشكلات و تحديات المجتمع الحالية و المستقبلية (أي نظرة معاصرة و مستقبلية). و هذا يتطلب فهم عميق و شامل (محلي و دولي) لظروف المرحلة الحالية و التنبؤ بما ستجلبه التغيرات الاجتماعية و الإقتصادية و التكنولوجية و البيئية من تحديات و مشكلات نريد من الخريج أن يواجهها بصلابة و تفوق.

المهمة معقدة و لا يمكن أن تنجز إذا ما ترك الاختيار أو القرار بيد شخص واحد أو فئة ذات اختصاص معين، المهمة تتطلب بناء شراكة واسعة تجمع عقول متنوعة على طاولة واحدة (أكاديميين و باحثين و رواد أعمال و مهنيين و واضعي السياسات و الاستراتيجيات) و يتطلب كذلك عقد لقاءات متكررة.

المهمة أيضا تتطلب مواكبة (تغيير و تطوير مستمرين). و وفقا لما يستجد على الطاولة، يتم التوصية بإضافة مسارات تخصصية جديدة و تحديث مسارات و إلغاء مسارات أخرى، تحديث مناهج و إلغاء أخرى، و تطوير دوري لطرق التدريس و التقييم. و لا شك أن ذلك سيتطلب من التنفيذيين (المدراء و المعلمين و المحاضرين بالمدارس و الجامعات) أن يتسموا بمرونة عالية مع التغيير المتكرر، لأن الظروف أصبحت تتغير بشكل سريع لأسباب تعود إلى تطورات التكنولوجيا و العولمة، المصدر الرئيس للتحديات التي ستواجه الطلاب، و ذلك كي تتحقق أهداف التنمية الوطنية المنشودة و تتم مقابلة احتياجات الجيل القادم من المعارف و المهارات الأساسية لنجاح مستقبلهم المهني.

فقرتي الثانية أهدف من خلالها إلى تقديم نماذج لمهارات أساسية تستجيب لمشكلات القرن الحالي، و مع هذا يغفل التعليم الوطني عن بعضها بشكل كبير. فاستنادا إلى نتائج مسح ميداني أجراه Millenial Branding (2012)، تحتل القدرات التالية: مهارات التواصل (communication skills)، الخصال الشخصية الإيجابية (positive attitude)، القدرة على التكيف مع التغيير (being adaptable to change)، مهارات فرق العمل (teamwork skills) المراتب الأربع الأكثر أهمية في نظر مسؤولي التوظيف عند استقبال طالبي الوظائف. أيضا من بين المهارات التي تم اختبار مدى ارتباطها بنجاح الشخص في الحصول على الوظيفة أو الراتب المجزي ما يلي: التحلي بالمسؤولية (responsibility)، الإستقلالية (independence)، (outgoing character)، الإصرار (persistence)، الاستقرار العاطفي (emotional stability)، سمة المبادرة (initiative)، المهارات الاجتماعية (social skills)، السلامة من الإضطرابات الشخصية (lack of personality disorders).

تختلف هذه القدرات عن القدرات الذهنية (المبنية على الذاكرة و السببية)، من حيث أنها تعد أدوات تمكن الإنسان من التعامل الفاعل و القيادي مع مشكلات بيئته و مع من حوله، و هذا أمر حاسم في عصر أصبحت فيها الشركات تعتمد بشكل كبير على فرق العمل (teamwork) و الشراكات (partnership) و التحالفات (alliances) في انجاز الأعمال و التغلب على التحديات، و قد تلعب تلك السمات دورا مؤثرا في بناء الميزة التنافسية لها و الاستمرارية.



السبت، 16 يناير 2016

تعلُّم قابل للتحول



ما بين الحاجة إلى مواجهة تحديات الحاضر و الاستعداد لتحديات المستقبل، تتوقف آمال الوطن و كذلك المواطن عند التعليم، ليكون مواكب للتغيرات الإقتصادية و البيئية و التكنولوجية و الاجتماعية المعاصرة، و التي شكلت المصادر الرئيسة المغذية لتلك التحديات اليوم و ستولد المزيد منها في الغد.

و حتى يلعب الفرد أدواره كمواطن، كموظف، كمسؤول، كقيادي، كمربي، كأب، كأم، كمتطوع، كمبادر، كرائد أعمال، أو أي دور وطني مسؤول، هناك ضرورة لأن يتم توجيه الجهود و الموارد لتحديد احتياجاته من رزمة المعارف و المهارات و الأدوات التي  تمكنه من الوقوف بصلابة أمام تلك التغيرات و من تجاوزها بقيادية و تفوق.

كل شيء في عالمنا يتغير، و كذلك التعليم، لن يقف عند نقطة، بل سيخوض التجربة كغيره، و سيعمل ليواكب احتياجات الوطن و المواطن المتجددة من المعارف و المهارات، و ذلك حتى يتمكن من تأدية مسؤولياته المتوقعة من دون تقصير. فهو إن وقف متفرجا، فالعواقب ستكون وخيمة; من بينها تأخر جيل بأكمله، و نشوء المزيد من التحديات و استمرار استنزاف الموارد و الطاقات البشرية و الطبيعية النافدة فيما لا يعود للمواطن و الوطن بأي نفع.

و قد قدم مقالي الأسبوع الماضي لمحة سريعة عن مهارات القرن ٢١ و تطرق للفرق بينها و بين المهارات التي يقوم عليها التعليم الوطني الحالي (و التي غالبا ما تنحصر في تقوية الذاكرة و تنمية المهارات السببية - القدرات الذهنية فقط).

و مع الأسف، لاتزال تطبيقاتنا للقدرات الذهنية محصورة على المسائل التي يعدها المعلمون أو المقدمة ضمن الكتب (أي منقطعة عما يجري في الواقع العملي من ممارسات متغيرة و متجددة، سيتعامل معها الطلاب بعد تخرجهم).

فمن ناحية، لازلنا في حاجة لمراجعة مستوى ما يقدمه التعليم الحالي للطلاب من مهارات (و المعتقد أنها ضيقة سواءا على المستوى المفاهيمي و كذلك التطبيقي)، و من ناحية أخرى، نحن بحاجة لإضافة رزمة من المهارات المستجدة لتواكب متطلبات سوق العمل التي تغيرت و لتواكب حاجة الإنسان للتعلم القابل للتحول (أي القابل للتطبيق على مجالات تتعدى مجالات التخصص الواحد- النظرة الحديثة).

و لتتضح الصورة حول مفهوم التعلم القابل للتحول، إليكم ما يلي. نحن اليوم، نبذل الجهود ليصبح ما يتلقاه الطالب من معارف و مهارات داخل الصف ممكنة التطبيق على حالات و مشكلات متخصصه خارج الصف. في حين أنه قد أصبحت هناك حاجة لأن تبذل الجهود ليتم تقديم تلك المعارف و المهارات للطالب بطريقة تسمح له توسيع نطاق تطبيقها لتشمل مجالات خارج نطاق التخصص، و ليس فقط خارج الصف (transferable competencies).

على سبيل المثال، نظرا لاستمرار تغير الظروف التجارية، ظهرت الحاجة لاستخدام معارف و قدرات علم الإحصاء في مجالات متعددة و متقدمة ضمن إدارة الأعمال، في مهام جوهرية تشمل تحليل بيانات التكاليف و المبيعات و اتخاذ القرارات.

من الضروري أن يواكب التعليم ما تتطلبه الظروف المتغيرة من تعليم عميق، يسمح بالتحول متى ما وجدت الحاجة لذلك، فذلك هو السبيل الذي يمكن من خلاله تخريج كوادر تستطيع الوقوف أمام تحولات التقنيات و الظروف الإقتصادية و الاجتماعية المتغيرة بصلابة، فتساهم في تنمية ذواتها و تقدم أوطانها.





السبت، 9 يناير 2016

مهارات القرن ٢١.. حاجة طلابية ملحة



قبل عدد من الأسابيع ناقشت أهمية نوع من المهارات تسمى soft skills أو حسب ترجمتي الخاصة المهارات غير المحسوسةو ذلك في مقال بعنوان يحمل اسمها. و قد حددتها بتلك التي يصعب إخضاعها للقياس مقارنة بالمهارات الأخرى التي تشمل القدرات اللغوية و الرياضية و العلمية و طرق حل المسائل (القدرات الذهنية). و على الرغم من ازدياد الاهتمام بالمهارات غير المحسوسة من قبل قادة الأعمال عند التوظيف، و ارتفاع أهميتها فيما يتعلق بنجاح الفرد على المستوى الشخصي و كذلك المهني، فإن الوعي الوطني و التعليم لايزلان غير مواكبين لذلك التحول الذي فرضته العوامل الاقتصادية المعاصرة.

مع الأسف، لازلنا نتبنى النظرة التقليدية التي تؤكد على تنمية الجانب الذهني فقط للإنسان. في حين أصبحت الحاجة ملحة بأن يولي التعليم اهتماما بالقدرات غير الذهنية و بشكل لا يقل كفاءة و جودة عن المعارف و القدرات التقليدية، و على كافة المراحل التعليمية (المدرسية، التقنية، و الجامعية).

و على الرغم من أن الأبحاث العلمية لا تقدم إجابة وافية لتحديد و قياس تلك المهارات بشكل أدق، سنحاول التعرف عليها من خلال عرض بعض النتائج البحثية و التقارير المعدة من قبل المهتمين بتطوير التعليم بالدول الرائدة صناعيا و المسوح الميدانية المتوفرة لتتضح الصورة حولها و مدى تأثيرها على مستقبل الفرد.

تذكر دراسة أجراها الباحثين Heckman and Rubinstein (2001) أن الطلاب الذين توقفوا عن الدراسة (و مع أن قدراتهم الذهنية مرتفعة) هم أكثر الموظفين غيابا، أقل رواتبا، أقل حظا في التوظيف، أكثر ارتكابا للمخالفات مقارنة بمن استطاعوا إكمال تعليمهم. و قد ذكر الباحثين أن فشلهم في الحياة المهنية مرتبط بضعف في عدد من القدرات غير الذهنية، انعكست مسبقا على شخصياتهم حينما عجزوا عن الإنتظام و الإصرار في مواصلة الدراسة.

و بعد ضبط عدد من العوامل المؤثرة على تفوق الطلاب، وجد الباحث Segal (2012) أن السمات التالية للطلاب: اللا مبالاة، تكرار الغياب، شرود الذهن أو الإهمال، التخلف عن أداء الواجبات، التشتت باستمرار، كلها سمات ارتبطت لاحقا بمعدلات الرواتب (أحد مقاييس النجاح المهني) لهولاء بعد مرور ١٢ سنة من التخرج، و بشكل يتعدى تأثير قدراتهم الذهنية. بعبارة أبسط، تلك السمات تعكس ضعف في عدد من القدرات غير الذهنية (كالعزيمة أو تحمل المسؤولية أو بُعد الرؤية) و التي إن وجدت في الشخص، يمكن أن تحكم نجاح مستقبله المهني، و بخاصة اذا تزامنت مع تقدمه في القدرات الذهنية.        

مهما تفوق الشخص في قدراته الحسابية أو اللغوية أو النقد أو السببية، هذه القدرات لا يمكن أن تعالج أي خلاف قد ينشأ بين شخصين في فريق عمل داخل شركة تؤمن و تعزز التنوع الجنسي و الثقافي (interpersonal skills). أيضا، لا يمكن لهذه القدرات أن تصنع شخص عالي الهمة و واضح الرؤية و قوي العزيمة و سديد الخطى تجاه أهدافه (intrapersonal skills). ضعف هذه الجوانب سيترتب عليه ضعف في الانتاجية و سيؤخر النمو المعرفي و الربحية لتلك الشركات، و سيترتب عليه أيضا تراجع فرص نجاح الفرد، و لن تحل محلها أو تعالجها قدراته الذهنية المتفوقة.

مناقشة هذا الموضوع تطول، لهذا سأكمل الحديث الأسبوع القادم.

السبت، 2 يناير 2016

تغيير وزير أم تغيير طريقة!


في العقد الأخير, تكررت إعفاءات الوزراء, و ذلك يثير تساؤلا جوهريا: هل التغيير (الإصلاح) في تلك المؤسسات الضخمة بحاجة إلى تغيير "الوزير" أم تغيير "الطريقة التي يقاد بها التغيير ذاته (القيادة)"؟

في الواقع, معظم الناس تخلط في فهم الفرق ما بين التغيير الذي يجلبه تغيير الوزير (أو الإدارة) و التغيير الذي يجلبه العنصر القيادي. 

فبينما يكون تغيير المدير هو تغيير في الأدوات أو الإجراءات التي تنجز بها المهام (كتغيير أساليب التواصل ما بين العاملين من فاكسات إلى إيميلات و أنظمة حديثة للمعلومات), أو تغيير المكاتب و تحسين ظروف العمل, فإن التغيير الذي يجلبه العنصر أو الشخص القيادي هو تغيير في الرؤية, في الرسالة, في الإنسان الذي يحملهما و يتفاعل مع من حوله على إثرهما, في الثقافة السائدة و القيم التي تتحكم في ردود فعله, و في الحس بوجود تلك الحاجة الملحة للإسهام و إحداث التحسين.

إن الإصلاح الذي نتطلع له لن يتحقق مالم يحدث التغيير في الإنسان أولا, فهو من سيقوده و ينفذه و هو من سيحول الرؤية إلى واقع. رؤية ذلك الإنسان و قيمه و ثقافته المؤسسية ستحكم خياراته و سلوكه, و من بينها مدى تقبله للتغيير.

يختلف العاملين في درجاتهم للإستجابة لمطالب التغيير, و بحسب إحدى الدراسات, فالذين سيدعمون التغيير مباشرة سيمثلون 20% من إجمالي الموظفين, أما البقية العظمى (80%) ستجدها متجمدة بمكانها و لا تتخذ أي خطوة أو قرار, و منهم من سيتبنى ردود فعل نشطة مقاومة للتغيير.   

هؤلاء الثمانون بالمائة يتوقف عندهم نجاح تنفيذ خطط التغيير, لا الموازنات الضخمة و لا مجرد تغيير الإدارة (الوزير).

هذه الفئة بحاجة إلى أن يتم التعامل معها بعناية تعكس تفهم كبير لاحتياجاتها و مخاوفها و شفافية عالية من الجهات العليا, كي تجعلها ترى الرؤية بوضوح و تخلق لديها الدافع للمشاركة في دعم جهود التغيير.  

إن التغيير يشعر هذه الفئة بوجود تهديدا لقيمهم و معتقداتهم و للمراكز الإجتماعية و المكانة و العلاقات مع من حولهم. و السؤال المؤرق في أذهانهم: إلى أين سنتجه, و أين سيأخذ بنا التغيير, و من المستفيد, و هل قدراتنا كافية لمواكبة متطلباته فلا نفقد أنفسنا و مكانتها؟

لا يمكن دفع هذه الفئة لقبول التغيير بمجرد تحديث الأنظمة أو نشر التعاميم أو توجيه الأوامر عن بعد. فمالم يتبنى الوزير منهجية قيادية تنبني على رؤية واضحة و تقترب من مشكلاتهم إلى أبوابها, و تعمل على إزالة مخاوفهم و تحفيزهم للسير مع خطوات الوزارة للتغيير فلن يكون من السهل إنجاح المهمة.

احتياجات الموظفين متنوعة, و هذا يخلق حاجة لتنويع استراتيجيات التحفيز, فمنهم من يريد وضوح الرؤية و فهم المنافع التي ستتحقق له و المخاطر التي سيتخطاها إذا ما ساهم في عملية التغيير, و منهم من يكفيه وجود الحوافز و لا يبالي بفهم الرؤية و لا دواعي التغيير, و لن يتمكن الوزير (القائد) من فهم تلك الاحتياجات و الاستجابة لها مالم يقترب منهم و يعتمد أسلوبا منفتحا و فاعلا للتواصل المستمر معهم, و بخاصة في المراحل الأولى للتغيير.

الإدارة تقود التغيير باستخدام الأبدان و الأجهزة, أما القيادة فتقوده باستخدام العقول.


القيادة تجعل الجميع قادة.